إلى الفدائي الذي منحني كلّ الأسماء... |
إلا إسمه! |
*** |
من أين عاد وجهك إليّ هذا المساء؟ |
كيف أطلّ وسط هذا الحزن الخريفي |
أكتب إليك وخلف شباكي تبكي السماء. وفي ذاكرتي صور كثيرة لنا في |
كل المواسم. |
تصوّرت قبل اليوم أنني قد أستقبل الفصول معك. |
يبدو أنني سأظلّ أستقبلها وحدي. |
لا زلت أجوب شوارع التاريخ |
أبحث عن وجهي الضائع الملامح في وجوه السواح والغرباء |
في وجوه الثوار والزعماء. |
ذاكرتي عشرات الرجال من كل قارات العالم. |
جسدي لم تبق عليه مساحة صغيرة لم تتمرغ عليها شفاه رجل. |
تغرّبت بعدك كثيراً |
في غربتي الكبرى يحدث أن أجمع أحزاني على كفيك وانتظر المعجزة. |
يحدث أن أسرق منك قبلة وأنا أسير في المدن البعيدة مع غيرك. |
يحدث أن أتسلل معك نحو عنب الخليل.. أن أزحف معك على الأرض الطيبة. |
وأسقط إلى جوارك متعبة. |
أيمكن لقلبك أن يحملني عندما يجب أن يخف الحمل! |
أيمكن أن نحقق هناك كل الأحلام التي لم تكتمل؟ |
كم كنت حزينة بعدك |
ولكن صورتك وحدها سافرت وعادت معي |
صورتك وحدها نامت معي في فنادق العالم |
وشفتاك وحدهما اللتان أرتعش لهما جسدي |
ذات مرة أتاني صوتك من بعيد |
كنت سائحة غريبة في بلد غريب |
حاولت أن أراك كما أردتك أن تكون |
وكانت سماء حيفا ماطرة.. ولم أكن هناك |
فحسدتك. |
أيلول 1973 |
*** |
كبر الحزن أيها الرفيق |
في هذه المدينة لا يأتي الصيف أبداً |
الرياح لا تفارق السماء |
وأنا متعبة |
عندما تغلق كل الأبواب |
أرتدي أحلى فساتيني وأجلس لأكتب إليك |
أيلول 1973 |
*** |
تتحدث اليوم آخر الأخبار عن الكيلومتر 101 |
يتحدّثون طويلاً عن رقم لم يكن في ذاكرة الشهداء |
لأن الماء يغلي في درجة المئة وأنا أصبحت أغلي بدرجة المئة وواحد. |
سأخلع أحلى فساتيني وأكتب إليك عارية |
سعداء أولئك الذين ماتوا وهم يعتقدون أنهم تجاوزوا المئة وواحد ومنحونا |
رقماً مطلقاً |
سأكتب شيئاً عظيماً هذا المساء |
ظروفي تساعد على الجنون |
أكتوبر 1973 |
*** |
لا زلت أشتري الجريدة كل صباح بحكم العادة |
لا زالت القاهرة تتردّد وبغداد ترفض ودمشق تقاوم وعمّان تتفرّج |
وبيروت ترقص |
ولا زلت أكتب إليك عارية |
أكتوبر 1973 |
*** |
هذا المساء وأنا أغادر الجامعة، جرّتني مظاهرة طلابية إلى شارع |
العربي بن مهيدي. |
كنت في حاجة إلى أن أصرخ.. حتى يغمى عليّ |
تذكرت أحد الأحلام، تمنيت لو نزل لحظتها مئة مليون عربي إلى |
الشوارع، لو زحف ملايين الشباب نحو كراسي الخونة. |
لو أنّ القصور العربيّة نُسفت في لحظة واحدة |
لو أن التاريخ بدأ من شارع الشهداء |
لو مثلهم قلنا (لا) |
ولكن.. كنت فقط أهتف مع الشباب |
(بالروح .. بالدم.. حنكمل المشوار) |
وكنت أبكي |
أكتوبر |
*** |
يخال لي أن الحرب انتهت |
رغم أن عناوين الجرائد لا تزال تحافظ على حجمها الكبير |
ولونها الأحمر |
أنا لا أنتظر شيئاً على الاطلاق |
نوفمبر |
*** |
أصبح الآن مؤكداً أن الحرب انتهت |
لقد تبادلنا الأسرى والموتى والفرح والتعازي والشتائم |
والشعارات والتهم.. |
وكثرت الأوسمة على الصدور |
ديسمبر |
*** |
أسأل نفسي هذا الصباح أين يمكن أن تكون.. |
كلما تذكرت آخر لقاء لنا شعرت بالخوف عليك |
أعيد قراءة رسالتك الوحيدة |
أتوقف عند الجملة الأولى (أنت مفاجأة جميلة، شعرك الأسود بقدر حقدي |
التاريخي يشكّل هالة قدسيّة على ملامحك الأبديّة). |
ربما كان هذا أجمل ما قلت لي |
وبعدها .. لا شيء |
قلت انك تدمن احتساء الصمت والدخان والنبيذ |
فهمت أنّك قد لا تكتب إليّ بعد الآن من الجزائر |
آخر مرة التقينا فيها كانت رأس السنة الماضية |
جلسنا في مقهى نتحدّث عن الحب.. والحرب والزواج.. |
كنت أحبّك.. وكنت حزينة ككل بداية سنة |
تمنيت لو انتميت إليك |
كان عمري عشرين سنة |
خفت ألا أنتمي لشيء بعدك |
كنت تمثل عندي قمة الرفض والثورة، وكان يمكن أن تكون بداية شيء |
رائع في حياتي |
ولكن خرجنا |
كنت تقول: "أنا أيضاً.. أشعر هنا أنني لا أنتمي لشيء لهذا يجب أن |
أرحل". |
سألتك: |
- أيّ الفترات كنت فيها أكثر سعادة؟ |
قلت: |
- عندما كنت أحمل شيئاً آخر غير الجرائد!.. |
- وماذا صنعت؟ |
- حاولت أن أهب هوية للأطفال الذين ولدوا غرباء عن العالم. |
وخرجنا. |
التقينا بصديق أخبرنا أنّ أحدهم قد انتحر بالأمس. |
عمّ الصمت. |
كان المنتحر رسّاماً مغربياً حاول أن يوقّع على لوحة حياته توقيعاً حزيناً، |
فانتحر. |
كان طيباً. |
ما كانت له من هواية عدا التنفّس. |
كانوا يعرفون خطورة التنفس عندما يبدأ هواية ويتحول فجأة إلى مبدأ. |
كانوا يعرفون ذلك، فألقوا بالغازات السامة، ملأوا بها سماء البلد الطيب |
وهاجر الفنان يبحث عن أوكسجين. |
جاءنا.. ولكنه ما استطاع الحياة بعيداً عن السماء الأولى. |
فقد اكتشف فجأة أنه نسي رئتيه هناك |
فانتحر. |
كان الناس يمرون أمامي مسرعين |
بعضهم يجوب الشوارع بلا هدف. وكنت أسير بينهم. |
أبحث في ملامحهم عن شيء، ربما عن ملامح الشاب المغربي. |
تساءلت وأنا أراهم: أيستحق هؤلاء أن يموت أحد من أجل قضاياهم؟! |
مات الفنان! (فتاة ببنطلون ضيّق تنتظر قادماً لا يأتي) |
أحقاً مات! (عجوز تسأل بائع الخضر.. إذا كانت أزمة البصل قد |
حلّت). |
قلت ذلك لصديق، فأجابني: يجب أن نحلّ قضايا الجماهير أولاً. أن |
نجعلها تشبع، تحتمي بسقف، وتلبس، وتحلم. وعندها فقط يصبح بإمكانها |
أن تفكر في القضايا الكبرى. |
لا يمكن أن تسألي إنساناً يكاد يغطيه الطوفان: |
لماذا لا يحتمي بمظلّة عند سقوط المطر؟ لنخرجه أولاً من الطوفان! |
عدت إلى الجامعة وأنا أحاول أن أتخيّل كميّة المياه الهائلة التي تغرقنا |
يومياً. |
قلت لي قبل أن نفترق "اليوم أصبح كل أصدقائي بين شهداء ومساجين |
ومنتحرين، وحدي رفضتني السجون وكلما كان لي موعد مع الموت لم |
يحضر". |
سألتني فجأة.. |
- أتحبين الموت؟ |
قلت: |
- لا أعتقد.. لكنني لا أخافه |
علّقتَ: |
- لن تكوني فدائية حتى تحبينه |
وافترقنا. |
مرّ عام على ذلك اللقاء. ذلك الفراق. |
ولا زلت أسأل عنك الرفاق. ربما لأقول لك فقط، أنني بدأت أحبّه. |
لا زالت صديقاتي في الجامعة يسألنني عنك |
قلت لاحداهن، أنك فدائي ولم تحضر إلى الجزائر كي تقيم بيننا. |
ضحكت، لأنّها لم تتصوّر فدائياً في وسامتك. ربّما لم تصدقني. |
أظنّها تأثّرت بـ (جمهورية) أفلاطون.. فهي ترى أنّ الحرب خلقت |
لتخلّص البشرية من القبيحين والمرضى وضعاف البنيّة. |
نجحت في إقناعها بأنّ شي غيفارا أيضاً كان وسيماً، وأنّه لو عمل في |
السينما لحطم أسطورة عمر الشريف. |
وأنّ ليلى خالد لم تكن أقلّ جاذبية من جورجينا رزق. |
ولكنها قامت بثلاث عمليّات لتشويه وجهها، كي تتمكن من مواصلة |
مهمتا، أي شجاعة هذه!.. لا أذكر أن امرأة عبر التاريخ شوّهت وجهها |
قصداً، كي تخدم قضيّة. لا جان دارك ولا جميلة ولا أنجيلا، غير أنني |
أذكر مبالغ خيالية كانت تدفعها ماري أنطوانيت من أجل ثوب سهرة |
جديد. وأرقاماً أكثر جنوناً تدفعها مدام أوناسيس أرملة كينيدي سابقاً |
وأرملة أوناسيس حديثاً كي تظل أنيقة وتبقى بشرتها ناعمة ويبدو فمها |
أقل إتساعاً. ومبالغ أخرى لا تقل جنوناً تدفعها أميرات عربيات وزوجات |
حكّام من أجل حفنة لؤلؤ نادر أو قارورة عطرٍ فريد. |
ألا ترى أنّه أصبح ضروري أن أحبّ الموت! |